جَعْجَعَةُ الْإِضْرَابِ الْعَامِّ !

ظل الإضراب العام يشكل”البعبع” الذي أخاف حكومات سبعينيات وثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي، كما شكل هاجسها المقلق الذي بَصَم مسيرة نضال النقابات العتيدة، التي كانت تحتفظ به كآخر ورقة تواجه بها تعنت الحكومات في الاستجابة لمطالبها. فكانت، هذه الحكومات، تحسب له ألف حساب، لِمَا كان يمثله من تهديد مباشر لاقتصاد البلاد، وأمنها الداخلي، وصورتها الخارجية. لذلك كانت تنخرط بقوة، و”صدق”، في مفاوضات الفرصة الأخيرة، حيث كانت تضع على طاولة الحوار، عشية تنفيذ هذا الإضراب، كل الحلول الممكنة، مع كثير من المساومات المغرية لصناديد المركزيات النقابية، وبعض التهديدات المبطنة التي ترد على لسان الوزير القوي آنذاك الراحل ادريس البصري، والتي كانت غالبا ما تنهي الاجتماعات في منتصف الطريق، وتسجل انسحاب ممثلي النقابات، وسط جو من الاحتجاج، والاحتقان، والوعيد على لسان من كانوا يمثلوننا، حقيقة لا سقوطا بـ”الباراشيت” !، في حقبة كانت النقاباتُ نقاباتٍ بالفعل والقوة، لا أشباهها كما هو حالها في يوم الناس هذا، حيث أضحت مجرد دكاكين، تعتلي كراسيها كائنات بدون مجد ولا تاريخ، أو بمجد وتاريخ انتهى من حياتها النضالية منذ ان قبلت بعروض المخزن، وولت الطبقة الكادحة ظهرها.

لقد كان الإضراب العام، القوة الضاربة للنقابات، والفيصل الحاسم في الملفات المطلبية التي تفاوض عليها الحكومات؛ حيث أتت أغلب التهديديات، بهذا النوع من الإضراب، أكلها في الاستجابة للمطالب، خصوصا بعد الرسائل القاصمة للإضرابات العامة لسنوات 1965، و1981، و1994، والتي خلفت الكثير من القتلى، والمختطفين، والمعتقلين، تَطَلَّب مَحْوُ آثارها الحقوقية على سمعة المغرب، الكثير من الجرأة السياسية، والتنازلات المطلبية، التي لم تكن الأنظمة الاستبدادية، آنئذٍ، تقبل بها.
فإذا كان هذا الإضراب، بهذه ال

قوة المؤثرة على التوازن التفاوضي لصالح النقابات، ومعها الطبقة العاملة المغربية، فإن السر في ذلك يعود للمُعينات التالية:
1. قوة النقابات وشعبيتها، والمتمثلة في التفاف الطبقة العاملة حولها، وانخراطها الكبير في صفوفها.

2. صدق القيادات، ونضاليتها، والتزامها بنبض الشارع، وتقديمها الدليل على ذلك؛ رفضا للمساومات، وقطعا مع رموز الفساد والاستبداد، وتقديما للمثال والقدوة في أنفسها.(أغلب القيادات المركزية النقابية تعرضت للاعتقال، والتعذيب والمحاكمات الصورية).

3. استشراء الاستبداد والظلم الاجتماعي، والفساد بمختلف ألوانه وأشكاله. مع تفشي الفقر، والجهل، ومحاربة الاصوات الحية؛ فكان الإضراب المتنفس الوحيد الذي يصرف فيه الشعب احتقانه كما اتُّفِقَ. حيث كان الانفلات الأمني صورة لازمة للإضراب العام، مما جعل قرار اتخاذه من أصعب القرارات التي تؤشر عليها النقابات آنئذ، والتهديدَ بتنفيذه “البعبع” الذي يخيف الحكومات.

أما الإضرابات العامة التي تدعو إليها النقابات اليوم، ومع هذه الحكومة بالضبط، وأمام غياب المعينات الثلاث إياها، فقد تحولت إلى مجرد فرقعات لا تخيف أحدا، ولا تحدث دخانا ولا ريحا. فالحكومة تعلم علم اليقين، وحقه، أن نقابات اليوم فاقدة لما تعطي، وأن قياداتها، التي كانت ترعب عن بعد، قد صارت على بابها تستجدي الفتات، في اللقاءات الخاصة التي تجمعها بها، وفي دعوات المجاملة التي يحظى بها رئيس الحكومة وبعض الوزراء في مؤتمراتها، والتي وصلت إلى حد تخصيص استقبال خاص للسيد رئيس الحكومة السابق، والهتاف بحياته في أحد المؤتمرات النقابية. في حين تواصل صراخها، وسط الشغيلة، وبين يدي الإعلام، وتعلن بين الفترة والأخرى عن تنفيذ تهديداتها الصغيرة، عسى أن تحفظ لها ماء الوجه الذي غبرته سنوات الانسحاب من الهَمِّ العمالي، والقبول بالفُتات، والعجز عن مواصلة الفداء والتضحية، والارتكان إلى أمجاد تاريخ عتيد تتمسح به، حتى انفضت جماهير من شرفاء النضال الصادق، من حولها تصنع لها بدائل للنضال، وتخوض بها معاركها الفئوية.

فرغم الكلام النضالي الكبير الذي لازالت تصدع به الحناجر المهترئة لمن كانوا يوسمون بأيقونات النضال النقابي، غير أن الساحة النضالية لم تعد تسعفهم في حشد الجماهير الكافية لإلقاء الرعب في مفاصل الحاكمين، وتركيع قراراتهم على عتبة “نضالهم المستميت” !!.

إن الإضراب العام، كما يقول القيادي الاتحادي المناضل “حسن طارق” في تصريح للصحافي عبد الرحيم الشرقاوي عقب الإضراب العام الذي دعت إليه النقابات خلال ولاية بنكيران:” قد تغير، فلم يعد كآخر ورقة للضغط وأنجعها ضد الحكومة لانتزاع مكتسبات للطبقة العاملة، وتحول إلى وسيلة احتجاج عادية دون روح. كما أن الحكومة، أصبحت تتعامل مع الإضراب كأنه وقفة احتجاجية ليس إلا، مما يستدعي من النقابات أن تراجع نفسها ووسائلها المستعملة.. فيقينا، يبدو اليوم أن خيار الإضراب أصبح يرهق النقابات أكثر مما ينفعها، مما يؤكد أنها ورقة أصبحت متجاوزة ودون فائدة”.(هيسبريس).

فلا سبيل أمام هذه النقابات، للخروج من هذا التداعي المريب، إلا بتغيير استراتيجية النضال، واعتماد أساليب جديدة غير أسلوب الإضراب العام الذي أظهرت نتائجه، كما أظهر التفاعل البارد للحكومة السابقة معه، أنه لم يعد يجدي نفعا، بعد أن فقد الحمولة السياسية التي كان ينضح بها، أيام كان يشكل إزعاجا حقيقيا للحكومات، ويضطرها للتفاوض، والنزول عند ضغط الشارع الذي لم يكن يتوانى عن الاستجابة لنداء “حَيَّ على الإضراب”!.
دمتم على وطن..!!


آخر المستجدات
تعليقات

التعليقات مغلقة.