قَضِيَّتُنَا الْأُولَى وَقَضِيَّتُنَا الثَّانِيَّةُ

 الأصلُ والتَّبَع.. !
لا تعارض بين انتصارنا لقضيتنا الوطنية الأولى، وانتصارنا للقضية الفلسطينية. فالأولى قضية وجود، وحضارة، وامتداد تاريخي وجغرافي للأمة المغربية. والثانية، كذلك، قضية وجود، وتاريخ، وجغرافية، وعقيدة رابطة بين شعوب الأمتين العربية والإسلامية. فحينما ينبري المغاربة يساندون قضيتهم الوطنية الأولى، وينتصرون لحَجَرهم، وشجَرهم، وتُرْبِهم، فهم يفعلون ذلك من منطلق الوطن، والوطنية، والدين. ما دام حب الوطن ، بما يعنيه من الدود عنه، وحمايته، والانتصار له، من صميم الدين، وكماله. وهذا لا يتعارض أبدا مع الانتصار لقضايا الأمة، وقضايا التحرر العادلة خارج جغرافية الوطن. وهو الأمر الذي وعاه المغاربة حق الوعي، فلم يميزوا، البتة، بين القضيتين، ولم يفرقوا، أبدا، بين حبهم لوطنهم، وحبهم لأرض الميعاد، وأولى القبلتين.
لكن السؤال الذي يطرح نفسه، هاهنا، هو: هل هذان الانشغالان هما على وِزان واحد من حيث الأولوية؟
الجواب: طبعا، لا. فقضية الصحراء المغربية، هي قضية وطن خاصة لا يكتوي بها سوانا، ولا يحس بمرارتها غيرنا. فنحن، المغاربة، أصحابها المتفردون، ولا أحد انبرى يشاركنا همها، خلا اعترافات دولية، بطعوم سياسية وجيوسياسية في الغالب، لا شك استفاد منها المغرب في تقوية موقفه من القضية أمام المنتظم الدولي. ولعل آخرها، وأهمها، الاعتراف الأمريكي، غير المسبوق، بمغربيتها، وما تلا ذلك من اعترافات أحكمت الخناق حول رقاب الانفصاليين، ومؤيديهم من الجيران وسواهم. سوى ذلك، لا أحد يهتم لها غيرنا. فأصبح الدب عنها، أولوية الأولويات، كما أصبح اعتماد كل وسائل المواجهة المشروعة لكسبها جزءً من المعركة الوطنية التي يجب أن ينخرط فيها الجميع، دون مواربة ولا تلكؤ. وحينما أقول الجميع، فإنما أقصد كل مكونات الأمة المغربية المؤمنة بالوحدة، والمناهضة للتجزيء.. في حين أن القضية الفلسطينية، هي قضية أمة، ومن المشترك العربي والإسلامي الذي يشاركنا فيها العالمون من المؤمنين بعدالتها؛ عربا، وعجما، ومسلمين . لكنها، من حيث ترتيبُها الأوْلوِيُّ لدى كل هؤلاء الشعوب والحكومات، توجد في مرتبة التَّبَعِ، لا الأصل، ويبقى للقضايا الوطنية/القطرية مرتبة الأصل. ومن تم فانشغالنا بها إنما يكون على هذا المهيع.
 “تطبيع” وتطبيع..
إن ما أثير من نقاش حول “تطبيع” المغرب علاقته مع إسرائيل، وربط ذلك باعتراف الولايات المتحدة الأمريكية بمغريية الصحراء، فيما يشبه مقايضة على حساب القضية الفلسطينية؛ كلام ليس دقيقا، وإن ظهرت مؤشرات تؤكد العكس. إذ ليست هذه هي المرة الأولى التي “يطبع” فيها المغرب علاقته مع إسرائيل، (والحديث الرائج الآن عن “استئناف المغرب لعلاقته مع إسرائيل” بما يعني أن هذه العلاقة ليست جديدة !). فلقد سبق له أن فتح مكتبا للاتصال، خلال تسعينيات القرن الماضي، وكانت علاقاته مع إسرائيل علاقات عادية، وكان الجميع يتفهم الموقف المغربي أنذاك، خصوصا وأن هذه العلاقة لم يسجل عليها أبدا أنها كانت على حساب القضية الفلسطينية، أو كانت عائقا أمام نصرة القضية الفلسطينية؛ بل كان المغرب في مقدمة المساندين لهذه القضية، عربيا وإسلاميا. والدليل على ذلك أنه بمجرد أن كشر الكيان عن أنيابه، وقلب الطاولة على التفاهمات المنبثقة عن اتفاقية أوسلو للسلام بين المنظمة وإسرائيل (1993)، وفتح جبهته ضد الشعب الفلسطيني مع صعود المجرم شارون إلى سدة رئاسة الوزراء، واندلاع الانتفاضة المباركة في نسختها الثانية، حتى أعلن المغرب عن قطع العلاقات مع إسرائيل (2002)، وإغلاق مكتب الاتصال تعبيرا منه عن موقفه المبدئي من القضية، الذي لم يتغير، والذي عبر عنه، من جديد، في بلاغ الديوان الملكي الأخير.
أما ما قيل عن المماثلة بين “تطبيع” المغرب لعلاقاته بإسرائيل، وتطبيع بعض دول الخليج لهذه العلاقة، فخطأ في التقدير، والقياس؛ إذ لا مجال للمماثلة بين “تطبيع” على أرضية موقف ثابت من القضية يربط، ضمنيا، بين استمرار العلاقة والتزام إسرائيل بتعهداتها مع المجتمع الدولي، وهو “التطبيع على الطريقة المغربية”، وتطبيع على بياض لا يعبر أصحابه عن أي موقف ثابت من القضية، ولا يرهنون استمراره باستمرار التفاهمات ولا بأي شيء آخر. ولا يخفى على أحد التطبيعات المجانية، المعلنة، وغير المعلنة، التي انخرطت فيها دول ومنظمات، حتى بعض الشخصيات، المحسوبة، زورا، على جبهة المُمانعة، والتي انبرت اليوم تقدم للمغرب دروسا في المواقف، والمبادئ، والنضال، وهي لا تكف عن بسط أجنحتها المتراخية لإسرائيل، من أجل استدرار عطفها ورضاها، وبدون أي مقابل حتى !.
 منطق المصلحة الحاكم !
لقد علمتنا العلاقات الدولية، عبر تاريخها الممتد، أن المصالح هي التي توطد دعائمها. فليست هناك عداوات دائمة، كما ليست هناك صداقات دائمة. فالثابت الوحيد هو المصلحة. فحيثما كانت هناك مصلحة يستفيد منها طرفان، أو أطراف، ذابت الخلافات، وحل الوئام، وتوطدت عُرَى اللقاء. وحيثما انتفت هذه المصالح، حلَّ التجافي، والقطيعة، وربما الحرب. والمغرب، في علاقاته الدولية، ليس في حِلٍّ من هذا القانون البراغماتي الذي يؤطر علاقات الدول، ويحكم منطقها الجيوسياسي، وأفقها الجيواستراتيجي. فهو، كسائر دول المعمور، محكوم بسياسة دولية، تجعله يفكر بمنطق المصلحة، كما يفكر بها سواه، ولا يمكنه أن يشذ ويتطرف ليظهر بوجه المُمَانع، ويغلق عليه الباب، وهو الذي اختار، منذ قرون، سياسة الانفتاح على الآخر، أيا كان هذا الآخر، ولم يسبق له، أبدا، أن أوصد أبوابه في وجه العالم، لأنه يعلم من تجارب الماضي والحاضر، أن “الذئب لا يأكل من الغنم إلا القاصية” و” أن الطبيعة لا تقبل الفراغ”. وهو المُشاهَد اليوم مع مجموعات ودول شاذة، اختارت الانغلاق بدل الانفتاح، والممانعة بدل المداراة، فكان مصيرها، ومصير شعوبها، إلى بوار !.
إن هذا المنطق المصلحي البراغماتي الذي لا يفهمه الكثير ممن اختاروا جبهة الممانعة خلف شاشات الكومبيوتر يقدمون دروسا في الممانعة والنضال والمواقف التي لا يهزها ريح، ووو… ولا أثر لهم على أرض الواقع، هو الحاكم/المتحكم اليوم في العلاقات الدولية. فمن شاء أن يحكم فلا مناص له من اعتماده، ومن أبى؛ فلْيُطَلِّق السياسة، ولْيُطلق الحكم، ولْيَلزم جانب الحائط،.. وكفى الله المؤمنين شر القتال !!.
دمتم على وطن.. !!


آخر المستجدات
تعليقات

التعليقات مغلقة.