حراك الريف بين تهافت أحزاب الأغلبية الحكومية وتصاعد الاحتجاجات

تعيش منطقة الريف وإقليم الحسيمة بالخصوص منذ أواخر أكتوبر الماضي احتقانا اجتماعيا استمر في الزمن ليتحول إلى حراك اجتماعي ومطلبي طالب الدولة في البداية بتقديم جميع المتورطين في مقتل محسن فكري إلى العدالة والذهاب بالتحقيقات إلى أبعد مدى قبل أن يتبنى مطالب اجتماعية واقتصادية وحقوقية أبرزها رفع العسكرة عن إقليم الحسيمة ورفع التهميش والحصار الاقتصادي عن الريف.

الدولة المغربية ظلت تتابع الوضع عن كثب من خلال أجهزة المخابرات ورجال السلطة لكن دونما رغبة في إثارة المزيد من القلاقل بمنطقة الريف خوفا من اتساع رقعة الاحتجاج لتشمل كل تراب الريف الكبير من جهة، ورغبة في أن يلعب الزمن دوره في إخماد الاحتجاجات من جهة ثانية، وحتى لا تفتح الدولة جبهة للصراع الداخلي في الشمال في وقت سيطرت البوليساريو على منطقة الكركرات بعد انسحاب أحادي الجانب من القوات المغربية بإيعاز من الأمين العام للأمم المتحدة..

أما الأحزاب السياسية فلم يخرج موقفها عن المألوف، حيث لم تقم بأي مبادرة تذكر، مما يعني تملصها من واجبها الطبيعي كمؤسسة وسيطة بين الشعب والحاكم. في حين يبقى الانعطاف الخطير في القضية هو خروج أحزاب الأغلبية الحكومية بتصريحات تتهم احتجاجات الريف بالعمالة والانفصال وتلقي التمويل الخارجي والمس بالثوابت والمقدسات الوطنية بعد اجتماع مع وزير الداخلية عبد الوافي لفتيت الذي أقنع من حضر أن الحراك الذي تعرفه الحسيمة لم تعد دوافعه اجتماعية بقدر ما أصبح ذا نزعة انفصالية ! !

الخطوة التي أقدمت عليها وزارة الداخلية بالاجتماع مع أحزاب الأغلبية حول الحراك الاجتماعي بالريف وما أعقبها من تصريحات هذه الأحزاب وما عرفته من تخوين واتهامات ثقيلة أسالت مدادا غزيرا وأثارت العديد من ردود الأفعال .. هي خطوة بالتألكيد في الاتجاه الممنوع .. هي إعلان لاستعمال القوة، مما يعني في الجهة المقابلة استفزازا وعدم رضى وتعبئة جماهيرية وتوسيعا لدائرة الحراك.

استفهامات كثيرة تُطرح حول شكل الخطوة التي أقدمت عليها وزارة لفتيت وتوقيتها وغايتها ومن دعا إليها ومن دُعي لها والرسائل التي تحمل .. وبخصوصها أورد الملاحظات التالية:

أولا: تمت دعوة أحزاب الأغلبية الحكومية لوحدها دون غيرها من الأحزاب، وهذا تطور مفاجئ في تعامل الدولة مع الملفات التي يفترض أنها “تمس بالمقدسات وبالوحدة الترابية” على حد تعبيرها، حيث دأبت وزارة الداخلية على دعوة جميع الهيئات السياسية.

ثانيا: الدولة تجنبت إحراج حزب الأصالة والمعاصرة بمواقف قد تجعله في فوهة البركان بأقاليم الريف وعلى رأسها إقليم الحسيمة وهو الحزب الذي يرأس جهة طنجة – تطوان – الحسيمة من خلال أمينه العام إلياس العماري .. وفي المقابل أمعنت في حرق أوراق حزب العدالة والتنمية وإذلاله باعتباره قائدا للحكومة.

وهو ما ظهر جليا من خلال بيان الأمانة الإقليمية لحزب الأصالة والمعاصرة بالحسيمة الذي شرعن مطالب الحركة الاحتجاجية داعيا الحكومة إلى “الكف عن استعمال لغة التهديد والتخوين والتبخيس في حق الأفراد والجماعات”. ثالثا: كان على وزير الداخلية أن يجتمع مع أحزاب المعارضة لإطلاعها على تطور الأوضاع أو مستجدات الملف، أما الأحزاب المشكلة للأغلبية الحكومية فمن الضروري أن تكون على بينة من كل التفاصيل، وذلك من خلال وزرائها ومن خلال رئيس الحكومة ومن خلال العلاقة التي تجمع فيما بينها.

رابعا: سجل اللقاء الذي ترأسه وزير الداخلية وحضره رئيس الحكومة ممثلا لحزب العدالة والتنمية ضربة للتطور السياسي والديمقراطي للبلاد، إذ كان الأجدر أن يعقد سعد الدين العثماني اجتماعا لمجلس الحكومة ويستمع الوزراء وكتاب الدولة لعرض وزير الداخلية وينقلوه إلى الأحزاب السياسية التي يمثلوها، وحالما تجتمع الهيئات المسؤولة لتلك الأحزاب – تنفيذيةً أو تقريريةً – يتم إعلان موقفها حيال القضية. أما الإخراج الذي أشرفت عليه وزارة الداخلية فيشكل تراجعا عن المكتسبات المؤسساتية..

خامسا: كان من الأجدر أن تعقد الأحزاب السياسية المشكلة للحكومة اجتماعا لبلورة موقف موحد حيال ما يجري في الريف بغض النظر عن مخرجات وزارة الداخلية .. إذا ما وضعنا نصب أعيننا أن كل الأحزاب الستة تتوفر بالريف على قواعد ومؤسسات حزبية ومنتخبين ومتعاطفين ..

سادسا: لم يحضر الاجتماع كل الأمناء العامين للأحزاب السياسية المشكلة للأغلبية الحكومية ؟؟ مواقف ممثلي أحزاب الأغلبية وتدفق القوات العمومية إلى منطقة الريف لم تكن لتخمد جدوة الاحتجاج أو لتمتص غضب الشارع، بل أذكته من خلال الدعوة إلى إضراب عام ومسيرة قال الداعون إليها إنها تاريخية .. وهو ما أكده ناصر الزفزافي على الفيسبوك مؤكدا أن الحراك سيظل سلميا وأن مطالبه اقتصادية واجتماعية وثقافية.

المسألة التي تؤرقني وأنا أكتب عن حراك الريف هو عجز الأحزاب السياسية عن التأثير في الشارع الذي يغلي دون قدرة على القيام بدورها الوظيفي كمؤسسات للوساطة، وهو مرتبط بالدرجة الأولى بعامل رئيسي هو المصداقية. لقد فقدت الأحزاب السياسية مصداقيتها في زحام الصراع على “المشاركة في ممارسة السلطة” كما ينص على ذلك الفصل السابع من الدستور- وليس ممارسة السلطة – وظلت رهينة التآكل الداخلي الذي أفقدها قوتها .. كما أدى تدخل الدولة في شؤونها وإذلالها وتبخيسها وإغراقها بالأعيان وشن الحروب على المناضلين الشرفاء إلى إضعافها وعزلها عن الشارع، بل أصبحت غير مرغوب فيها، وأضحت في لاوعي أفراد الشعب مرادفا للمناصب والمكاسب والمقاعد والاغتناء غير المشروع والنفوذ .. ولهذا السبب تم تقويض الأحزاب، فنجد الاحتجاجات تنظم بشكل عفوي ودون مؤسسات وساطة، ومن الطبيعي جدا أن تكون خارج السياق المؤسساتي (ظهير الحريات العامة).

الدولة تستبيح الأحزاب وتبعِد زعماءها ذوي المصداقية وتُهينُها، وحين يغلي الشارع تلعب الأحزاب السياسية دور المتفرج لضعفها وعجزها عن التأثير.

الدولة في حاجة إلى جبهة داخلية قوية ومتماسكة، والمجتمع في حاجة إلى مؤسسات حزبية تمثله وتؤطره، مؤسسات ذات مصداقية يثق فيها، وينخرط فيها ويساهم في تنمية بلده من خلالها.

وبناء عليه، يتوجب على الدولة رفع اليد عن الأحزاب والكف عن إضعافها، كما يتوجب عليها التعاطي الإيجابي مع مطالب الحراك الاجتماعي بالريف وتجاوز المقاربة الأمنية، أما رئيس الحكومة فعليه أن ينتقل إلى الحسيمة لفتح حوار جدي ومسؤول مع ممثلي الحراك بعيدا عن منطق التخوين والمؤامرة.


آخر المستجدات
تعليقات

التعليقات مغلقة.