“كَبُرَ مَقْتاً… ” ! *

مع حلول كل شهر رمضان، تزدهي منابر المساجد، وتشرق، لحملة العلم، وحراس معقل التوحيد، والإيمان؛ من الخطباء، والوعاظ ، والأئمة، والأساتذة من مختلف التخصصات. يتناوبون على المنابر، كما على عموم الحجيج المؤمن الذي يفد بكثرة، غير عادية، على المساجد، خلال هذا الشهر الفضيل، يبتغي تثبيت صيامه بصلاةٍ، عمود الدين، ورأسه التي دونها بوار، وذهاب الأجر والثواب.

ورغم هذا الاستعداد غير العادي لإحياء ليالي وأيام هذا الشهر الفضيل، بكل أنواع القربات، والطاعات، واجتناب المحرمات،…ورغم الإشباع غير العادي من الدروس، والمواعظ، والإرشادات، ينتهي رمضان كما لم يكن، ونحن نراوح حيث نحن، بل نزداد سوءا مما نحن عليه.

فأين الخلل؟.

لقد حاولت أن أستكنه سبب شرودنا عن الحق، والمعروف، رغم ما يلقى علينا من مئات، بل آلاف الدروس، دون جدوى ولا أثر. فلم أجد من سبب معقول ثاوٍ خلف هذا الاهتراء الروحي، والقيمي المخيف، رغم ما يظهر منا من شغف على التعلم والاهتداء، سوى الخلل الكامن في “أجهزة الإلقاء” التي تدفع بما لا تفعل، وتدعي ما لا تجيد ولا تعمل. أجهزة أغلبها خائر، ومُنْبَتٌّ عن واقع الناس، منسلخ عن وعظه وإرشاده. مئات الدروس والتوجيهات ، والنصائح تلقى على الناس (المصلين)، لا أثر لها في واقعهم، ولا تأثير لها عليهم. أئمة ووعاظ ودعاة يتحدثون في كل شيء، ويدعون إلى كل شيئ؛ من الصلاة، إلى التقوى مرورا بالعمل الصالح؛ أشكالا وتلويناتٍ… بسلوكٍ في واد، وأقوالِ في واد !!..

لقد كان سلف هذه الأمة، أيام العز والريادة، يحركون العالم بأخلاقهم، وسلوكاتهم، قبل أقوالهم، وتوجيهاتهم. لقد كان الواحد منهم يتهيَّب أن يصعد منبرا ينصح الناس، أو يرشدهم، مِنْ عليه، خوفا من مَقْتٍ (1) قد يحيق به وهو لا يدري . وإن وقع، فلا يحدث إلا بما يفعل، ولا ينصح إلا بسلوكٍ ديْدنه، وإِلْفَهُ. فكان لكلامه وقْع السِّحر على الناس، ينسحبون من حلقته وقد تحولوا “خلقا آخر” !.

لقد كان للدروس والمواعظ دور في التغيير، والإصلاح. فبفضل خطب ومواعظ، لأئمة ودعاة توافقت أقوالهم أعمالهم؛ تحول الناس إلى خير الناس؛ فصلحت أحوال، وتحسنت علاقات، وتآلفت قلوب.

أما اليوم، في زمن الغثائية(2)، ومع هذه الثورة المعلوماتية الهائلة، ووسائط التواصل الاجتماعي المكتسحة، مما سهل تمرير المعلومة، والدعوة، والفكرة، بآلاف أضعاف ما كان ممكنا ذات تاريخ؛ فلا نرى لما ينشر، وما يعرض تأثيرا ولا رِكزا. مجرد كلام عابر، لا وقع له ولا تأثير، بعد أن تحول أغلب الدعاة، والأئمة ، إلا من رحم الله، إلى مجرد موظفين تحت الطلب، يقدمون بضاعتهم، كيفما اتفق، ومقاصدهم شتى. وبعضهم يتسابقون إلى المنابر يلقون “كلاما”، وعلى المواقع ينشرون غزواتهم المباركة، يستدرون بها الإعجابات، والتعليقات، يَعُدُّونها، ولا هَمَّ لهم في نُصحٍ وجَّهوه؛ أهُمْ أهلٌ له سلوكا، أم مجرد نقلٍ نقلوه، وقد حاولوا محاولاتهم للإقناع، والإفهام، مِنْ على المنابر، ولا مجيب.. !..

فأغلبهم، إلا من رحم الله، (وهذا استثناء لما عرفنا من خيرة الأئمة والدعاء لا زالوا على العهد السالف)، لا تربطهم بما يقولون رابطة، ولا يهتمون لما يصدر عنهم، ولا لجزاء كلامهم الشارد؛ مقتا يمحق كل أجر؛ أحقيقة أم ادعاء؟ !. أيتمثلونه في أنفسهم سلوكا لازما قبل أن ينصحوا به غيرهم، أم مجرد استهلاك يلوكون به ألسنتهم استنفاذا لوظيف مفروض، أو رغبة في ظهور على الملإ مرغوب، ومحبوب.

نعم، هذه هي الحقيقة المرة، من مشارق الإسلام إلى مغاربه، دعاة على موائد الزرود، وفي حضرة النفوذ، يؤدون يمين العهد، ويتوسلون إلى الأيادي المعطاءة، ليحولوا رغبات جامحة إلى أيقونات يُبْتَهَل لها في محارب الدعوة والدعاء. لا علاقة تربط الكثير منهم بحقيقة هذا الدين، وإن لبسوا لباسه، وسموا بأسمائه، ولهجوا بكلامه،.. صبحة وعشية.

إن هذا الدين نور، ونور الله لا يُطعى لعاصٍ، ولا لمُراءٍ، ولا لمن يبيع كلام ربه بثمن من الدنيا زهيد، ولا لمن يقول ما لا يفعل؛ فيأمر بالمعروف ولايأتيه، وينهى عن المنكر ويأتيه(3).

نعم، هو نور به ينفذ الكلام إلى القلوب ليوقدها بالحماس ويحركها للإصلاح. خلا ذلك، كلام في كلام، يدخل من أذن ويغادر من أخرى، وإن أُثِّثَ بقال الله وقال رسوله (ص)، واستُدِعِيَتِ القصص، والأحداث، ما دام الجهاز فارغا من نور الإخلاص، شاردا عن رقابة الله. يُشحن ليُلقِي صوتا بلا روح، وتوجيها بلا معنى، يرجع الصدى في غوغائية مُنْبَتَّة كغوغائية خِوار عِجْل السَّامِري؛ سواءً، بسواءٍ !!

دمتم على وطن.. !!

——–

* هذا العنوان مأخوذ من الآية الكريمة: ” “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ؟. كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ” (الصف:2-3).

(1) الْمَقْتَ : البُغْضُ الشَّدِيدُ. فكيف به إن صدر من الله جل وعلا. وهو جزاء من يقول ما لايعمل، بل جزاؤه أعظم المقت ” كبر مقتا عند الله..الآية”.

(2) قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : “يوشك الأمم أن تداعى عليكم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها. فقال قائل: “ومِن قلة نحن يومئذ؟”. قال: “بل أنتم يومئذٍ كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل، وليَنْزِعَنَّ الله من صدور عدوكم المهابة منكم، وليقذفن في قلوبكم الوهن”. فقال قائل: “يا رسول الله وما الوهن ؟”. قال:”حب الدنيا، وكراهية الموت”.

(3) قال رسول الله ﷺ”: يُؤتى بالرجل يوم القيامة فيُلقى في النار، فتندلق أقتاب بطنه فيدور بها كما يدور الحمار في الرحى، فيجتمع إليه أهل النار، فيقولون: يا فلان، ما لك؟ ألم تك تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر؟ فيقول: بلى، كنت آمر بالمعروف ولا آتيه، وأنهى عن المنكر وآتيه” (أخرجه البخاري ومسلم).


آخر المستجدات
تعليقات

التعليقات مغلقة.