آن الأوان لمرصد إقليمي لتتبع مسارات الهشاشة.. لكن هل يعيد المجتمع المدني باشتوكة أيت باها توجيه بوصلته نحو هندسة الإدماج الإجتماعي؟
لم تكن الهزات الاجتماعية التي شهدتها بعض المراكز الحضرية بإقليم اشتوكة أيت باها مؤخراً مجرد أحداث عابرة أو منعزلة، بل كانت بمثابة كاشف ضوئي سلّط الضوء على شقوق عميقة وأسئلة مؤجلة في بنية التنمية المحلية.
في قلب هذه الأسئلة، يقف النسيج الجمعوي المحلي، الذي طالما كان فاعلاً محورياً وشريكاً في تدبير الشأن العام، أمام اختبار وجودي لا يقبل التأجيل. فهل ستكون هذه الأحداث هي نقطة التحول التي تدفعه إلى إجراء مراجعة نقدية لأدائه، والانتقال من منطق “تدارك الخصاص” المادي الذي استنفد أغراضه، إلى استراتيجية “هندسة الإدماج” الاجتماعي التي يفرضها الواقع اليوم بإلحاح؟
تشخيص مرحلة أظهرت حدودها وبات تجاوزها حتمياً
لا يمكن لأي متتبع منصف أن ينكر الدور المحوري الذي لعبه المجتمع المدني في إقليم اشتوكة أيت باها خلال العقدين الماضيين. فقد كانت المرحلة الأولى من العمل الجمعوي الحديث، مرحلة ضرورية ركزت بشكل مبرر على تدارك الخصاص الهائل في المنشآت الأساسية. من فك العزلة عن الدواوير عبر تعبيد المسالك، إلى ربط المنازل بشبكات الماء والكهرباء، كانت هذه التدخلات بمثابة وضع الأساسات التي لا غنى عنها لأي تنمية.
إلا أن المراقبين للشأن المحلي يسجلون بدقة كيف أن هذه الدينامية، التي انطلقت بروح تطوعية عالية، عرفت انزياحاً تدريجياً عن مسارها. فمع مرور الوقت، تقاطعت مسارات العمل الجمعوي مع رهانات سياسية وحسابات انتخابية ضيقة، ما أدى إلى نتيجة مركبة ومعقدة: من جهة، تم بشكل ممنهج تقليص مجالات اشتغال عدد من الجمعيات الجادة والمتخصصة، تلك التي تتبنى مقاربات علمية وتخطيطاً استراتيجياً في تدخلاتها، لصالح فاعلين آخرين ارتبط أداؤهم بأجندات ظرفية. ومن جهة أخرى، لوحظ تراجع تدريجي ومقلق لأداء الفاعل المدني ككل، خصوصاً في المجالات الاجتماعية الحيوية التي تتطلب نفساً طويلاً ولا تُجنى ثمارها بشكل فوري، وعلى رأسها دعم التمدرس ومواكبة الشباب.
كان الأثر الأوضح لهذا الانزياح هو تعميق الهشاشة في مناطق بعينها، وتحديداً في المجال السهلي بالإقليم، الذي تحول إلى حزام يجمع تناقضات التنمية. هذا التداخل أفرغ جزءاً كبيراً من العمل الجمعوي من روحه ورسالته التنموية، وساهم في خلق فجوة متزايدة بين التدخلات القائمة على منطق “الدعم الظرفي” والحاجيات الحقيقية المتطورة للفئات الهشة، التي لم تعد تطلب فقط الخدمات الأساسية، بل أصبحت بحاجة ماسة إلى آليات للإدماج والمواكبة.
نحو دينامية جديدة: من “بناء الحجر” إلى “الاستثمار في سواعد الغد”
إن ما شهده الإقليم مؤخراً من تجليات تعبيرات شبابية اجتماعية، مع التفريق الواضح بين مشروعية المطالب الاجتماعية والاقتصادية للشباب، وبين مظاهر الشغب والتخريب التي ترفضها جميع مكونات المجتمع بشكل قاطع، لا يمكن اختزاله، فقط، في قراءات أمنية أو أخلاقية عميقة، وهي مطلوبة وبالغة الأهمية، بل يستدعي، ويحتاج أيضاً قراءة سوسيولوجية عميقة لجذور الهشاشة. وتكشف هذه القراءة عن ندرة واضحة في بنيات الإدماج الاجتماعي، وغياب شبه تام لتدخلات النسيج الجمعوي في مجالات مصيرية، مما ترك الشباب والمراهقين في مواجهة مباشرة مع تحديات البطالة، والهدر المدرسي، والفراغ القاتل.
أمام هذا الواقع، لم يعد الإصلاح ممكناً بنفس الأدوات القديمة أو العقليات السابقة. المطلوب اليوم هو إطلاق دينامية جمعوية متجددة، تستلهم نفساً جديداً، وتتحلى بالشجاعة للانتقال من معالجة الأعراض إلى استئصال الأسباب. ويمكن رسم ملامح هذه الدينامية الجديدة من خلال مسارات استراتيجية متكاملة:
1. الاستثمار في الرأسمال البشري كأولوية مطلقة: يجب أن ينتقل الاهتمام من “الحجر” إلى “البشر”. وهذا يعني أن يصبح قطاع التعليم والتربية هو ميدان العمل الجمعوي الأول. لا عبر تدخلات شكلية، بل من خلال برامج للدعم التربوي النوعي والمستمر لمحاربة الهدر المدرسي، وإطلاق مبادرات للمصاحبة النفسية والاجتماعية للأطفال والمراهقين داخل وخارج المؤسسات التعليمية، باعتبارها خط الدفاع الأول ضد كل أشكال الانحراف والتهميش.
2. بناء جسور الإدماج المهني للشباب: بالنسبة للفئة العريضة من الشباب الذين لم يكملوا مسارهم الدراسي، لا يمكن تركهم عبئاً على المجتمع. الحل يكمن في إحداث بنيات للقرب متخصصة في التكوين المهني والحرفي. ومن المهم أن تُصمم هذه المراكز وفق منظور “النجاعة المجالية”، أي دراسة حاجيات السوق المحلية والجهوية (في الفلاحة، الصناعات الغذائية، الخدمات، السياحة…) وربط التكوين بها بشكل مباشر، لضمان فرص حقيقية للإدماج الاقتصادي بدل تخريج أفواج جديدة من العاطلين.
3. تأسيس آليات مؤسساتية للحوكمة والتتبع: لضمان فعالية هذه التدخلات وتكاملها، يبرز مقترح إحداث “مرصد إقليمي لتتبع مسارات الهشاشة الاجتماعية” كضرورة ملحة. لن تكون مهمة هذا المرصد جمع البيانات فقط، بل تحليلها ورصد المؤشرات الدقيقة للإدماج الاجتماعي لفئة الشباب والمراهقين على مستوى كل جماعة ترابية. والأهم من ذلك، سيلعب المرصد دور المنسق الفعال بين كافة القطاعات المتدخلة (التعليم، التكوين المهني، الأسرة والتضامن، الفلاحة، التشغيل، الشباب والرياضة، الثقافة) وبرامج الدعم كالمبادرة الوطنية للتنمية البشرية، بهدف توحيد الرؤى وتوجيه الموارد نحو الأهداف الأكثر إلحاحاً.
4. تعزيز الديمقراطية التشاركية عبر تمكين الشباب: كآلية عملية لإشراك الشباب في صناعة مستقبلهم وتحويلهم من موضوع للتنمية إلى فاعل فيها، تبرز أهمية خلق “مجالس جماعية للشباب” على مستوى كل جماعة ترابية. هذه المجالس يجب ألا تكون هيئات صورية أو موسمية، بل فضاءات مؤسساتية حقيقية للمشاركة في بلورة السياسات العمومية المحلية، انطلاقاً من مرحلة اقتراح المشاريع، مروراً بتتبع تنفيذها، وانتهاءً بتحليل المؤشرات وتقييم أثرها على واقعهم.
إن الانتقال من مرحلة “الخصاص” إلى مرحلة “الإدماج” هو اليوم ضرورة استراتيجية وليست ترفاً فكرياً. وهو يتطلب شجاعة نقدية من الفاعلين المدنيين لإعادة تقييم أدائهم وأولوياتهم، كما يتطلب إرادة سياسية حقيقية من السلطات العمومية والمجالس المنتخبة لدعم هذا التوجه الجديد واحتضانه. فهذا التحول النوعي في أداء المجتمع المدني يمثل الضمانة الأكيدة لتحصين الإقليم ضد أي هزات اجتماعية، وبناء عقد اجتماعي جديد أساسه التنمية المستدامة التي تضع كرامة الإنسان في صلب كل سياسة عمومية.
والظاهر إذن، أن الانتقال من “بناء الحجر” إلى “صناعة المستقبل” بهذه الربوع، لا يطرح مجرد سؤال تقني حول الأدوات، بل يضع الجميع أمام سؤالين وجوديين متداخلين يشكلان معاً جوهر الأزمة. الأول، يرتبط بسؤال الشجاعة: فهل يملك الفاعل الجمعوي المحلي الجرأة ليدفع “فاتورة” التخلي عن شعبوية “الإنجاز السريع” لصالح “الاستثمار الصامت” في الإنسان؟ لكن حتى لو وُجدت هذه الشجاعة، يبرز السؤال الأخطر والأعمق، وهو سؤال الضمانة: في ظل ثقافة سياسية أثبتت قدرتها على استيعاب كل مبادرة جادة وتفريغها من محتواها، كيف يضمن ألا تتحول آليات الحوكمة المقترحة كـ”المرصد” و”مجالس الشباب” هي نفسها إلى مجرد ديكور متطور يجمّل منطقاً قديماً بدلاً من أن ينسفه من جذوره؟!..